محطات روائية.. الأنهار وثنائية الحياة والموت..

 كريم السماوي



يفضل كثير من الروائيين أن يتخذوا من الأنهار أمكنة مفتوحة لنهايات رواياتهم، وفي نفس الوقت يبعثون من خلالها برسائل واضحة الدلالات لهذه الأماكن التي تمتاز بالسرمدية. خاصة إذا علمنا أن جلّ الحضارات قامت على شواطئ الأنهار.

أليخو كاربنتير ( 1904 ـ 1980 ) الكوبي الذي كتب رواية " الخطوات الضائعة " كان يتمتع بالذكاء حتى أنه ترأس تحرير مجلة كارتيليس وهي أهم مجلة في كوبا وتعني الاتحاد وله من العمر 20 سنة. ولكنه سجن ونفي إلى باريس وعمره 24 سنة. رواياته ترجمت إلى أكثر من 20 لغة عالمية وأهلته لنيل جائزة ثربانتس سنة 1977، اهتم بالسريالية وارتبط بعلاقات طيبة مع روادها أمثال أنديريه بريتون وسلفادور دالي واراغون وايلوار. وفضلا عن كونه أديبا مرموقا متخصصا بآداب أميركا اللاتينية أعتبر أيضا مؤرخا لموسيقاها، يبحث عن الآلات الموسيقية البدائية التي تروي عطش الروح الفطري، ولهذا كانت روايته الأهم " الخطوات الضائعة " تتحدث عن ذلك الباحث عن الآلات الموسيقية البدائية في عمق غابات أميركا اللاتينية، تاركا زوجته المتيمة بأدوارها على خشبة المسرح، حتى أنه لا يستغرب غيابها في أي وقت، وهناك في عمق الغابات يكتشف الفارق بين زيف الحضارة والحياة الفطرية، فيتعرف على روزاريو التي أنصتت له كأم رغم وجود صديقته الوجودية مووش معه. وأمام المعادلة الجديدة قرر بطل الرواية العودة لتطليق زوجته والارتباط بروزاريو المولودة من أصول هندية. قال عن رحلته:" أشاطر آلاف الرجال الذين عاشوا عند منابع الأنهار العظيمة التي لم يُكشف جمالها البدائي، جمال يفيد الجسد والروح بالتساوي، جمال يجعل الإنسان فخورا بأنه سيد المخلوقات في هذه الأصقاع النائية، وأدركت أن أولئك الهنود الذين تصفهم التقارير الخيالية بأنهم كائنات خارج نطاق الوجود الحقيقي للبشر، ما هم إلا سادة أصلاء لحضارته في هذا العالم الذي يخصهم ". وحين وصلوا إلى مقايضة الهنود آلاتهم الموسيقية وجدوهم عراة تماما، لا يعرفون الخجل الفطري، ووجوههم خالية من أي تعبير، فالعري هناك بريء خالٍ من البذاءة، ولهذا قرر العودة لتطليق زوجته، والتخلص من صديقته مووش، ومن ثم العودة ليعيش مع روزاريو، ولكنه حين عاد بعد سبعة أشهر من الصراع المرير وجد روزاريو متزوجة، فقرر أن يعيش بقية حياته إلى جانب نهر أورينوكو، ذلك السرمدي الفتان.

هيرمان هيسة ( 1877 ـ 1962 ) الحائز على جائزة نوبل في الأدب سنة 1946 قضى معظم سنوات دراسته في مدارس داخلية ولاهوتية بسبب غياب والديه في الهند للتبشير الديني، ولهذا نجد في رواياته شخصية رئيسية تشعر بالغربة والعزلة الروحية، ولكونه شاعرا أيضا نجد طغيان لغته الشعرية في رواياته، وفي روايته " سدهارتا " يتحدث عن ذلك السمّاني الذي يغادر بيته ويترك أبويه بعد أن أيقن أن معلميه البراهمة الحكماء قد أخبروه جل حكمتهم وأفضلها، وأنه يجب أن يبحث عن أجوبة للأسئلة التي تدور في ذهنه، فحدث نفسه قائلا:" جيدة هي الأغسال، لكنها ماء لا تروي عطش الروح، جيدة هي القرابين ومناجاة الآلهة، لكن هل هذا كل شيء، أتمنح القرابين السعادة؟ وما شأن الآلهة؟ أكان براجاباتي حقا هو ذا الذي خلق الكون؟ ألم يخلقه أتمان؟ أين يمكن العثور على أتمان؟ أين يسكن؟ أين ينبض قلبه السرمدي؟ أين .. أين.. ثم وقف مراجعا خلاصة الكتب المقدسة وفي مقدمتها الأبانيشاد التي تتكلم عن الباطني الأخير وأبيات رائعة هي: إن نفسك هي العالم كله..

هكذا انطلق سدهارتا باحثا عن الحقيقة، مصطحبا صديقه غوفيندا، حتى في ظل معارضة والده، لحقا بالنسّاك السمّانيين الهزلاء وعرضا عليهم الصحبة والطاعة، كان سدهارتا يلبس الوزرة والرداء الترابي، غير المخيط، ويأكل كل يوم مرة ويمتنع عن الأكل المطبوخ، حتى تضاءل اللحم في فخذيه وخديه، وباتت نظراته باردة كالثلج إن وقعت على النسوة، وبات له حلم واحد أن يبيت خاليا من الرغبة، حتى التقى بوذا واستمع إلى التعاليم من فمه، ومع هذا طلب الأذن منه بالرحيل، وانطلق وحيدا بعد أن غادره غوفيندا، وظل يتجول في هذا العالم الملغز، وتعرف على كمالا، وتعلم منها طقوس اللذة، واستيقظت حواسه التي أماتتها سنوات الزهد، ولكنه سرعان ما ترك كل ذلك ورحل، وعاد إنسانا بلا وطن، إلى أن انتهى به المطاف ليعيش قرب النهر، مع المراكبي الذي ساعده يوما في عبور النهر عندما كان سمّانيا يبحث عن السلام وقد أحس بحب عميق لهذه المياه الجارية لأنها جزء من الحياة السرمدية وقرر أن لا يغادرها عاجلا وقد أصبح كهلا.. ولأن النهر كان يسمعه ألف صوت وصوت.

الطيب صالح ( 1929 ـ 2009 ) الروائي العربي السوداني تحدث في روايته " موسم الهجرة إلى الشمال عن ابن القرية الذي سافر إلى بريطانيا ونال درجة الدكتوراه عن شاعر بريطاني مغمور، وطال غيابه سبع سنوات، وحين عاد إلى قريته وجد كل شيء تركه وقد تغير ببطء، عدا أمر واحد، وهو وجود رجل غريب يدعى مصطفى سعيد، قدم إلى القرية قبل خمس سنوات، اشترى مزرعة وبنى بيتا وتزوج بنت محمود من القرية ورزق منها ولدين، وحين تعرف عليه وجده مؤدبا وغريب الأطوار، فحدس أن وراءه سر تعطش لمعرفته، ومصطفى سعيد نفسه أدرك ذلك فدعاه إلى بيته، وهناك شرح له ما لم يقله لأهل القرية. كان مصطفى سعيد من أهالي الخرطوم، مات أبوه بعد ولادته، وعاش مع أمه حتى جاء رجل على حصان ففر الأولاد عدا مصطفى، فسأله الرجل هل تحب أن تذهب إلى المدرسة؟ فوافق ليظهر منه ذكاء مفرط جعله يقطع مراحل التعليم قفزا، فسافر ببعثه إلى القاهرة ومن هناك إلى بريطانيا، وكان أول سوداني يرسل في بعثة إلى الخارج، ولذكائه أصبح ابن الإنجليز المدلل الذي استوعب عقله حضارة الغرب. هذا ما عرفه ابن القرية والراوي للرواية عن سعيد، وكان ذلك سببا في توثيق العلاقة بينهما، وهو ما جعل مصطفى سعيد أن يختاره وصيا على ولديه قبل أن يغرق في النهر عند فيضانه، وكأنه أدرك قرب موته، ويكتشف الراوي أن مصطفى سعيد كان زير نساء في بريطانيا، افتتنت به بنات الإنجليز، حتى أن ثلاثة منهن انتحرن، بينما قتل مصطفى سعيد الرابعة التي هام بها، وبعد أن قضى عقوبة السجن عاد إلى السودان واستوطن هذه القرية. ويبقى السؤال المهم في ذهن ابن القرية والراوي:" هل مات مصطفى سعيد غرقا أم انتحارا؟ " ولهذا قام الراوي ابن القرية بالسباحة في النهر، مستعيدا ومستذكرا مصطفى سعيد الذي غرق في النهر نفسه، وحين وصل إلى منتصف النهر شعر أن قوى القاع تشده، فسرى الخدر في ساقيه وذراعيه، بعد أن استلقى على ظهره ليشاهد وهو بين الحياة والموت أسرابا من القطى متجهة شمالا.

هكذا نكتشف أن الأنهار التي تملك الحياة السرمدية لها وللكائنات، هي الأماكن المفضلة لكثير من الروائيين لكي يعبروا من خلالها عن ثنائية الحياة والموت..

إرسال تعليق

0 تعليقات