الخطاب الإشهاري .. تسليع المعبد في الإسلام

عدنان سمير دهيرب/ نقلا عن جريدة الزمان الدولية




اقترنت دراسات وبحوث الاشهار على مدى مئة عام بوسائل الاعلام وأهميتها في عملية التسويق والترويج , بدءاً من مدرسة فرانكفورت التي تأسست في عشرينات القرن الماضي , وأبرز مفكريها ثيودور أدورنو وهوركهايمر وكتابهما “جدلية التنوير” الذي عد الثقافة بوصفها صناعة وسلعة لخداع الجمهور , من خلال الشركات والمؤسسات التي تختص بأنتاج افلام السينما وبرامج الراديو وما تنشره الصحف , ومن ثم التلفزيون الذي جمع السمعي والبصري , واصبح أحد أهم الوسائل الاعلامية خلال العقود المنصرمة , ولم يزل يشكل وسيلة مهمة بالرغم من التطور التكنولوجي لوسائل الاتصال . وقد نشرت دراسات عديدة , وأنشأت مراكز بحثية لاسيما في الدول الرأسمالية التي شهدت قفزات في الانتاج الاعلامي مع تطورات اقتصادية هائلة اتخذت من وسائل الاعلام أدوات كان لها بالغ الاثر على الجمهور لصناعة ثقافة جماهيرية تهدف الى التسويق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي , لتغيير اتجاهات الرأي العام .

غير ان الكاتب الكبير الدكتور وليد شاكر النعاس تناول الاشهار من رافد آخر امتدادا لمفكري تلك المدرسة , في كتابه الجديد ” الخطاب الاشهاري / تسليع المعبد في الاسلام أنموذجاً” الصادر حديثاً من دار نينوى .فقد بحث الخطاب الاشهاري , وفق منهج علمي , ولغة مكثفة بعيداً عن الترهل , تدعوا القارئ الى التركيز والاهتمام وطلب الفائدة في كيفية الافادة من الاشهار لتوظيفها في المجال الديني وفق تدرج زمني منذ ان اتخذ المعبد مكاناً مقدساً لدى الشعوب الشرق أوسطية قبل وبعد الاسلام .

 وقسم الكتاب الى ثلاثة مباحث الاول المدخل المفاهيمي والثاني الصورة الاشهارية  والثالث الصورة المقاربة العربية تراثاً ومعاصرة.

فهو يرى أن الهدف الرئيس من الاشهار هو تسويق الانتاج من خلال الاعلان عنه , وفق وسائل وتقانات مثيرة للمتلقي , لأقناعه بمضمون قيم المعروض والغايات الرئيسة من هذا العمل هو الربح المادي , سواء علم المستهلك بذلك أم لم يعلم  وغاية الاشهار تتداخل مع خصائصه خطاباً موجهاً للمستهلك , إذ أن خصائصه عديدة فتارة يكون الاشهار توضيحاً , وأخرى وسيلة لقراءة المشهر عنه , وثالثة توظيفاً لوسائل الاعلان المختلطة , ورابعة تعزيزاً قيمياً للمشهر عنه بالصوت والصورة ونحو ذلك من الخصائص التي تتوافق مع الغاية منه . ص29

ثم يأخذ الباحث بمقاربات تحليل الاشهار من خلال اللسانيات والحجاج والتداولية والسيميائية . ويستعرض الدور المهم لوسائل الاعلان والافادة منها في الاشهار لما له من أهمية في عرض الانتاج المادي والثقافي والفكري قديماً وحديثاً وحسب طبيعة الشعوب والافراد والادوات المتاحة لديهم في كيفية استمالتهم إزاء القضايا المطروحة , فهناك الاشهار التجاري , الاشهار السياسي , الاشهار الاجتماعي , الاشهار الاعلامي الابداعي والاشهار التذكيري .

عناصر الاتصال

ورغم ان عناصر الاتصال المتمثلة بالمرسل والرسالة والمتلقي ومحتوى الرسالة والتفاعل في جميع الدراسات الاعلامية غير أنه وظفها بما يلتقي مع مضامين وأهداف الكتاب لبيان اهميتها وأثرها على الجمهور .والثابت لدى المهتمين بالشأن الإعلامي اعتقادهم أن الصورة التي كانت ترسم وتنقش في الكهوف والجدران تعد الرسالة الاولى في الاعلام , بوصفها تجسد واقع تلك المرحلة او الحقبة من الزمن .

لذلك فهو يبحث في أهمية الصورة منذ الحضارة الاغريقية ممثلة بالثالوث الفلسفي , بدءاً من سقراط الذي وصف الخطابة بأنها صناعة الاقناع , متمثلاً إياها في محاورات فيدر , ليكمل أفلاطون طرح الخطابة من جديد بوصفها تحديداً اقناعياً للمتكلم , وليكتمل هذا الدرس مع آرسطو – تحديداً – في صناعة الخطاب الحجاجي بوصفه من وسائل الاشهار اللسانية حين حدد الخطابة ملكة النظر لما هو مناسب للاقناع في كل حالة . ص.47

وقد تناول الصورة من خلال المحسنات البلاغية , مفاهيم الصورة أصناف الصورة , درس الصورة . وهذه العناوين الفرعية لم يستعرضها مفاهيمياً وأنما حلل المعنى وطرح أمثلة لتقريب المفهوم لدى القارئ من خلال الواقع العراقي والعربي لتأكيد مقاربة النص . ويلتقي عنوان الكتاب مع المبحث الثالث الذي يفسر ويحلل الكيفية التي وظف فيها المعبد أشهارياً للدين بدءاً من ظهور الاسلام أيام النبي محمد (ص) والخلفاء الراشدين ومقتل قسم منهم في المساجد .وأهمية المسجد في العقل الجمعي , إذ أتخذ مكاناً لايصال الرسائل باستمالات عقلية ووجدانية ما زالت مؤثرة في المتلقي , بل تكشف عن المستوى الثقافي والفكري في المجتمعات العربية .

مكان ديني

إذ أن المسجد المكان الديني فيما بعد , تفتح مسارات أخرى مشغلاً اشهارياً في الاتصال المباشر مع فئات اجتماعية مختلفة , حين توظف معه وفيه المتون المختلفة , التي بوساطته تحقق الاقناع والتأثير , وتمرير أحداث ونصوص تعضد خطاب المسجد بعداً تسويقياً . ص90 .

وما زالت المنظومة الدينية من خلال المسجد أو الخطيب الذي يستخدم وسائل الاتصال الجماهيري أو المواجهي يشكل أحد أهم قنوات التأثير وتغيير أتجاهات الرأي العام بعد التغيير في شكل النظام السياسي في العراق .وهذا الاشهار لم يكن وليد المتغير السياسي والاجتماعي , بل هو أحد منابع الثقافة العراقية الراسخة في عقل ووجدان الانسان العربي .

ان هذا المكان (المعبد) الذي تم استنطاقه بأمتياز في الحياة اليومية إنما يمثل شكلاً من أشكال الاتصال غير المباشر في تكييف الجمهور نحو إرساليات تهدف الى إقناعه والتأثير في متخيله بوصفه خطاباً أعلامياً بمعنى الكلمة , لقدرته الكبيرة على بلورة الرأي العام وتوجيهه نحو مقصدية ما , أنه خطاب تشكيل الوعي عند الجماعات الاولى وقد تبصر عمر بن الخطاب أشهارية المعبد , في مأسسة السلطة , بنقلها من المستوى اللاهوتي الى مستوى الممارسة السياسية . ( ص100)

ويشرح المؤلف كيف وظف الفقهاء بمختلف مذاهبهم , النصوص الدينية وتكييفها  بما ينسجم مع توجهاتهم الايديولوجية والمتغيرات السياسية والاجتماعية التي حصلت في مراحل الدولة الاسلامية واستدعائها في المرحلة الراهنة .

إذ يرى ان المشكلة الاكبر أنهم يتعاضدون مع بعضهم في تسليع المعبد إشهاراً أيقونياً ولسانياً , في مختلف وسائل التواصل عبر وصولات اقناعية تدفع الجمهور المسطح ليماشي مضامين المرسل , فلو تبصرنا في خطبة أمير داعش في إدعائه نسب آل محمد (ص) , بوصلة تمويه وخداع , ولكنها تنطلي على متلقيهم المضلل , لأن حججهم وتمثلاتهم قارة في ذهنية السواد الاعظم من المسلمين , بأفضلية آل البيت على سواهم , وهو اشهار بالتفضيل . ص112 .

وثمة طروحات فكرية واعلامية, ومعاني بليغة تكشف عن إمكانية مائزة في كتابة البحث العلمي للكاتب ومؤلفه الذي ينماز بالثقافة العالية والشاملة.

إرسال تعليق

0 تعليقات