لميعة عباس عمارة وأمومة الشعر النسوي

كتبت / د. نادية هناوي



قيل إن لإيليا أبي ماضي أثرا في قصائدها وقيل أن لريشة جواد سليم تأثيرا كبيرا على هيئتها وأن للسياب دورا في صناعة شاعريتها،وكلها أقوال لا تنفي عنها موهبتها التي جعلت قصائدها أغاني عشتار التي طمس التاريخ أسطوريتها فألغى ما كان لها من دور امومي فيه كانت هي الأم الكبرى التي تحتضن أبناءها فيلوذون بكنفها.

وإذا كان لنا أن نحدد للشعر النسوي أمومة، فان لميعة عباس عمارة هي الممثلة لهذه الامومية فلقد تربعت على عرش الشعرية النسوية ببساطة روحها وعفوية منطقها فلا تصنعت ولا بالغت. ولا تعني البساطة والعفوية التسطح وإنما هي السهولة الممتنعة التي جعلت فتاة الرافدين تعشق غرين السومريين فتصنع منه شعرا موزونا مقفى أو موزونا حرا عاميا وفصيحا، يماشي مشاعرها الطافحة بالأحاسيس الجياشة المشوبة بالوجدانية تجاه الوطن ومآسيه.

وهي التي وظفت في سبيل ذلك موهبتها وكل ما لها من أناقة ولباقة داحضة فكرة أن المرأة موضوع شعري، مؤكدة أن الشعر في الأصل قصيدة كتبتها أنثى أسطورة صنعت الشعر ولم يصنعها.

ولقد قالت لميعة الشعر في زمن لم يكن سهلا على المرأة اقتحام عالم الرجال تعليما وعملا وإبداعا لكنها تحدت موانع الحياة الاجتماعية وضغوطاتها فكانت كبيرة وهي تصنع لها خطا في الشعر يميزها من ديوانها الأول الزاوية الخالية عام 1959 ومرورا بدواوينها( عودة الربيع 1962 وأغاني عشتار 1969 ويسمونه الحب 1972 ولو أنباني العراف 1980 والبعد الأخير 1988 وعراقية، وأنا بدوي دمي)

وبالرغم من أن أصواتا شعرية نسوية جايلتها فان أيا منها لم يكن له مثل خطها، وبعض هذه الأصوات يذكرها تاريخ الأدب مثل عاتكة الخزرجي ووفية أبو أقلام ورباب الكاظمي ومقبولة الحلي وابتهاج عطا أمين وفطينة النائب( صدوف) العبيدية وبعض الأصوات لا تكاد تذكر في تاريخ الأدب مثل سهام القنديلجي وباكزة أمين خاكي وأميرة نور الدين، لذا تميزت لميعة عليهن كشاعرة الهمس الوردي والبسمة الحالمة وخفقة النظر بالقول البليغ الذي يختصر معاني الهجر والعناد والتجني والكبرياء والابتعاد..الخ.

وهي التي اختطت لها مكانا في الشعر العربي المعاصر مفترعة في هذا الشعر مسارات تؤسس أرضية جمالية تبعده عن كل وصاية وتملق وتبعية وترتفع به عن الإغراء بالصبابة وعن الميوعة بالغنج وعن الافتعال بالصدق.

وصحيح أن خطها الشعري لم يكن بمنزلة الخط الذي شكلته نازك الملائكة كأحد رواد حركة الشعر الحر لكن للميعة مشتركات تجمعها بنازك الملائكة اجتماعية ومكانية، فكلتاهما مولدتان في بغداد وقرب دجلة فكانت لميعة كرخية ونازك رصافية والاثنتان نشأتا في أسرتين توفرت فيهما أجواء الاستقلال والتميز من ناحية الشغف باللغة والحياة والولع بضفاف النهر الخالد وتلقيتا عناية خاصة وتشجعيا لموهبتيهما من لدن أسرتيهما ومعلميهما وواصلتا تعليمهما في دار واحدة هي دار المعلمين العالية وعاشتا أجواءها الثقافية الواعدة بالتحولات الأدبية، وقالتا الشعر ودرّستا اللغة العربية وآدابها.

وإذا كانت نازك قد اهتمت بالتوغل في العملية الشعرية والتغلغل في بناء القصيدة فكانت الشاعرة الناقدة فان لميعة اختارت أن توجه ثورتها إلى لغة القصيدة فكان ذلك هو موضع تميزها في الشعر الذي ما غاصت في عوالمه الدفينة وإنما تلمست علياءه محاولة أن تطوعه بعفوية وبساطة فأرخى الشعر لها عنانه وسلّم قياده لذاتها العاشقة .

ولميعة إذ لاذت بالقصيدة الى عالم خاص، فلأنها تعرف أن الشعر غواية لا بد أن تتحصن بها كي تذود عن قصيدتها قامعة الذكورية بدل أن تقمعها.

إرسال تعليق

0 تعليقات